شيَّع والدته بنظرة فاترة، لم يعتدل في جلسته، سريعا تبخرت نظراته في الفراغ المنبسط أمامه، يرسلها كئيبة، وكأنها لطفل يحبو في اضطراب، أخيرا ارتخت خيوط الليل السوداء، بعد أن غلبها نور الفجر، يظل " حسان " على حاله كل يوم يشهد تتابع الأيام، رتيبة بلا هدف أو معنى، كصفحات بيضاء، ينطوي في عزلته، عاودت أمه النداء في شفقة، ابتسم لها في هدوء دون أن يبدي جوابا، قطع هدوء البيت ديك يصيح، يشق صياحه طوق السكون المفروض من حوله، كل من رآه يتأكد أن الخبل قد مسَّ عقله لا محالة، لكن صبابة تبقت وإن كانت لا تفيد، تكفيه لأن يميز وجه أمه البشوش، ويستشعر حنوها الزائد، ليحتضن جسدها الناحل وهي تنهنه باكية، تسح الدمع حين تراه في هيئته الرثة، لكن كيف طاش عقله، تلك حلقة مفقودة، قبل عامين كان " حسان " زينة الشباب، يترقرق فيه ماء الحياة، تتطلع إليه العيون بلهفة، موفور الطلعة حار الشباب، تشع من عينيه ابتسامة عذبة، يعرفه الجيران برجاحة عقله ووفرة ذكائه.
بدأت القصة عندما هبط "الغجر" للقرية، يأتون كل عام في موكب تعمه الفوضى، سيل جرار من الحمير والماشية الهزيلة، تصرخ عربات الكارو، تحمل أخلاطا من البشر بوجوه غريبة شيبا وشبانا، يمتلئ الجسر بالتراب على وقع أقدامهم، مشهد مألوف لإحياء الليلة الكبيرة، بعد قليل تفيض الدروب والأزقة بأبناء هؤلاء، يطرقون كل باب، يسألون الناس إلحافا، قطعة من الجبن القديم، كسرة بتاو، حفنة من الكشك، أو ما تجود به الأيدي من العجوة واللبن في أحيان، "أم حسان" امرأة رقيقة الحال، لكن يدها ممتدة بالخير لا ترد سائلا يقصدها، يتزاحم هؤلاء عليها، تهش الوجوه لنفحتها، تقول في استعبار: "هؤلاء طرح الطريق، أبناء الحاجة، لا تردهم أبدا، لعل لقمة في فم مسكين تنجيك من عذاب النار".
لكن " لحسان " رأيه ، لم يقتنع يوما بكلامها، يسفهه وإن لم يبد معارضة ظاهرة، يعتقد في قرارة نفسه أنهم عالة على الحياة، يتأفف لمرآهم، يتجنب حتى المرور بالقرب من خيامهم، حتى وهو يمرح بين أصحابه في الليلة الكبيرة، لا يستنكف أن يعلن في اجتراء : "الغجر مخلوق شائه، لا فائدة ترجى منه"، يقضي ساعات التلهية، لكن خيامهم المنصوبة تستفزه، يعتقد بأنها تفيض بالعهر، يطوف بها الشباب الباحث عن المتعة، المرتحل بزورق الحب في جولات بعيدة، هناك في قلب الحقول حيث يتطارحون ألوان المتع، لكن شاءت الحياة المؤلمة أن تلقي به في هذا الطريق الوعرة من حيث لا يدري.
ذات صباح طرق الباب، تغيبت الوالدة في حاجة، كانت هي "رسمية" الغجرية، فاتنة الغجر، صاحبة الشفاه الدسمة الطافحة بالغواية، تطلع نحوها مستغربا، أذهلته قامتها الهفهافة، تصلبت نظرتها ملتهبة بحمرة الشباب، وجه استدار في اشتهاء فاضح، وعينان تبرقان بوهج ساحر، يرتسم على شفتيها شبح ضحكة هزيلة، قالت في ميوعة: "صباح الخير، نحتاج قطعة من الجبن، وتلقيمة شاي وسكر"، أشرقت ابتسامة في عينيه، تحرك على إثرها شيء غريب بداخله، لم ينطق بحرف، أعطاها سؤلها وانصرفت، لكنه ظل في مكانه مأخوذا بهذه الفتنة.
ارتفع النهار، وانبعثت خيوط الشمس الوليدة، تنساب حرارتها في عنفوان، تطعن وجه الفضاء في قسوة، هذه أول مرة يطرق فيها خيام الغجر منذ مجيئهم، ظل في تحفظه تجول برأسه هواجس الأمس، رغم ما خصته به من رعاية وحفاوة، كانت نظراتها المشبعة بالدلال تطمئنه بعض الشيء، وفي كل مرة تحييه بابتسامتها الدافئة، تتشبع روحه بنعيم القرب، حتى تعلق بها، احبها كحب الشمس للشروق، سريعا توثقت الروابط بينهما، استمرا على حالهما لفترة.
انفرطت أيام المولد، وهكذا أيام السعادة سريعا تنقضي، اغتمت نفسه، مبكرا ضخمت الوحدة من أحزانه، وسرت في نفسه قشعريرة مؤلمة لا يقدر على مغالبتها، لا يتصور كيف تكون الحياة بدونها، تنبعث الخيالات في خاطره انبعاث الشياطين، يرشف الألم في توجع، يظل سواد ليله يغالب فكرة مجنونة، تقدح في رأسه مستفزة، إما أن يرحل معها، أو يبقيها ويطلبها من أهلها، لم يحسب لكلام الناس حسابا، تحت وقدة الظهيرة انطلق إليها، وتمور نفسه بهذه الأماني، توقف إلى جوار خيمتها يرتب كلماته، ريثما يذيعها، لكن حديثا ملتهبا يأتى من داخل الخيمة، اقتحم أذنيه، كانت هي، وقد اشتبكت في مغازلة مع أحدهم، لم يصدق ما سمع، استجمع ما تبقى من قواه، واقتحم عليهما المكان، وجد حبيبته في حجر "سلومة" فتوة "الغجر" يتلاعب بها، لاذ بصمت طويل، هالته المفاجأة، احمرت عيناه، واغبرت سحنته واستحال وجهه كئيبا، افترشته مسحة داكنة من الحسرة، ثارت ثورته، تقدم من غريمه ينتزعها من بين ذراعيه بالقوة، لكن "سلومة" كان الأسرع، عاجله بلكمة قوية، أسقطته أرضا، ثم تناوب على ضربه، لم يتركه حتى غاب عن وعيه، حمل إلى بيته في حالة مزرية، كان "الغجر" قد هدوا خيامهم وانصرفوا من حيث أتوا.
لم يعد كما كان، انطفأت لمعة عينيه، يشعر وكأن الفراغ يصرخ من حوله بصوت مخيف، انزوى عن الناس، يعوي بوجع الألم، قد شحبت الدماء من وجهه ، لم يتبق فيه غير أثارة من حياة.
يخرج و نور الصيح يلون الحيطان بلونه الذهبي المتراقص، ولا يرجع إلا مع الظلام، نفدت حيلة الوالدة التي قامت على شأنه، لم تجدي معه زيارات المقامات، وأعتاب الأولياء، ولم تستطع وصفات العطارين وأحجبة العرافين، ولا حتى أدوية الأطباء، أن تعيد إليه عقله المسلوب، قال "فهيم المزين" بنبرة واثقة: "حسان أصابته لوثة لن تخرج من رأسه حتى الممات، لقد صادفته ابنة ملك الجان عند الساقية المهجورة، حاولت ضمه إليها، لكنه أفلت، لم ينجيه منها غير أذان الفجر، لكنها رمته بقبضة من تراب، ضيعت عقله" لم يصدر عنه ما يثير حفيظة الأهالي، اللهم إلا ما كان يجتاحه من نوبة صراخ، يسترجع كلمات أغاني أم كلثوم، ويدندن بمواويل حزينة عن الليل والعشاق وآهات الفراق، وكأنه ينكأ جراحه، تعود الناس شطحاته، لكنهم فوجئوا به يحتجب على غير عادته كل صباح، لم يخرج من بيته ، مضى النهار كله، حتى تسلل الليل بغلالة مخيفة، لتعلن صرخة هزيلة من فم والدته العجوز عن وفاته، مرت الأيام كعادتها غير مكترثة بأحزان، وعاد معها "الغجر" ثانية، وعادت "رسمية" في غوايتها، لتنصب فخاخ أنوثتها من حول الشباب، وتكشف ثيابها كنوزها الأنثوية الثمينة كما تعودت، في انتظار ضحية جديدة.
------------------------------
يكتبها : محمد فيض خالد